سوسة الدماغ- كيف يغزو المحتوى المتكرر عقولنا؟

المؤلف: هاني الظاهري09.26.2025
سوسة الدماغ- كيف يغزو المحتوى المتكرر عقولنا؟

في صميم العصر الرقمي ومع تصاعد وتيرة المحتوى المتباين عبر شتى منصات الشبكات الاجتماعية، بزغ مصطلح علمي معاصر يُعرف بـ "دودة الأذن" أو "سوسة الدماغ"، وهو مفهوم يشير، وفقًا لمعجم "أكسفورد"، إلى: "جزء من نغمة أو عبارة موسيقية تتردد بشكل دائم في الذهن خارج نطاق سيطرة الفرد، ويصعب التخلص منها".

في سالف العصر وقبل أن تبتلعنا موجات "تيك توك" العارمة، ومقاطع "ريلز" انستغرام المتلاحقة، ومقاطع الفيديو المتدفقة على منصة X، كان هذا المفهوم وثيق الصلة بعالم الموسيقى، حيث تستقر نغمة محددة أو جزء من لحن أغنية في ذهنك وتتكرر بشكل قهري، إلا أن التبدلات الجذرية المعاصرة في طبيعة المحتوى قد وسعت نطاق "سوسة الدماغ" ليغدو أكثر شمولية وتأثيرًا.

بات بالإمكان أن تتشكل "سوسة الدماغ" من عبارة تلفظ بها فنان أو شخصية مؤثرة، أو من خلال مقطع فكاهي، أو صوت متكرر في فيديو رائج، أو حتى لفتة مشهورة في مقطع قصير لشخص غير معروف، فكم مرة وجدت نفسك تردد عبارة معينة بصورة لا إرادية، أو شاهدت من حولك يرددون لازمة مشهورة من مقطع فيديو ما؟ وكم مرة رن في رأسك صدى صوت معين من فيديو متداول وكأنه شريط لاصق ملتصق بخلايا دماغك؟

يكمن السبب وراء هذا الأثر المزعج في تكوين المحتوى القصير ولازماته التي تعيد إنتاج نفسها عبر مئات المقاطع المرئية بأساليب مختلفة. هذا التكرار المتزايد يشكل ما يعرف في علم النفس بـ "الترميز المتين" الذي يدفع الدماغ للاحتفاظ بهذا العنصر السمعي أو البصري حتى خلال لحظات الاسترخاء أو أثناء النوم.

في يومنا هذا، تتنافس تطبيقات التواصل الاجتماعي للاستحواذ على اهتمام المستخدم وإبقائه متفاعلًا لأطول فترة ممكنة، وبالتالي فقد تمت برمجة العقل على استيعاب وتحليل كميات هائلة من المؤثرات في فترة وجيزة، ولكن ما هي المحصلة؟ أضحت عقولنا تربة خصبة لنمو "ديدان أذن" جديدة بشكل يومي وساعي، ديدان تتغذى على التكرار والمحتوى السريع الزائل، وتؤثر في وعينا بصورة خفية.

لا تقتصر المخاوف هنا على تكرار عبارة مضحكة أو لحن جذاب فحسب، بل في أن تتحول هذه "الديدان" إلى أدوات تأثير نفسي وثقافي تُستخدم لتوجيه السلوك أو لغرس أفكار سطحية ضارة على الصعيد الاجتماعي والأمني بشكل غير واعٍ، وخاصة لدى الشباب وصغار السن.

لذا، أصبح من الضروري أن ندرك هذا التأثير، وأن نطور حصانتنا الذهنية تجاه المحتوى المتكرر من خلال تدريب أنفسنا على أساليب معينة، مثل تقليل مدة التعرض للشاشات، والوعي التام باللحظة الراهنة (اليقظة الذهنية)، والانخراط في محتوى أعمق وأكثر تنوعًا وفائدة كلما شعرنا بتغلغل دودة أذن جديدة في عقولنا.

بإيجاز، يمكننا القول إن مفهوم "سوسة الدماغ" قد بات ظاهرة معقدة تمس الإدراك والذاكرة والسلوك، بفعل أدوات بارعة في اللعب على أوتار العقل الباطن، إلا أن الخطوة الجوهرية نحو سيطرة أكبر على عقولنا في زمن اكتظاظ المحتوى وسرعة انتشاره تكمن في الوعي التام بهذه الظاهرة، وتعزيز مستوى التحكم فيما تستقبله عقولنا وعقول أبنائنا من نفايات سمعية وبصرية تعج بها الفضاء الإلكتروني بشكل جنوني لم يعد باستطاعة أحد كبحه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة